اخبار العرب -كندا 24: الأربعاء 10 ديسمبر 2025 11:15 صباحاً في قاعة يملأها الانتباه المشدود والدهشة الصامتة، قدّم فيلم «المد البشري» للمخرج البريطاني ديفيد وارد واحدة من أكثر التجارب الوثائقية قرباً من جوهر الحج وروحه، حيث لم يتجه الفيلم إلى الصورة التقليدية للجموع ولا إلى المشاهد العامة للطقوس، بل اقترب من الإنسان نفسه، من تفاصيله الصغيرة، من دوافعه، ومن تلك اللحظة التي تتحول فيها رحلة العمر إلى مرآة داخلية.
تبدأ الرحلة من أقصى الشمال البارد، من السويد تحديداً، حيث يجلس الشاب يوسف بجوار والده، وهما يستعدان لمسافة تتجاوز السبعة آلاف كيلومتر نحو مكة، وقد تبدو الرحلة مجرد أداء فريضة طال انتظارها، لكن كاميرا وارد تعرف منذ البداية أن ما في داخل يوسف أكبر من مناسك، فهو يحمل ندبة الانفصال بين والديه.
والحج بالنسبة ليوسف ليس ركناً فحسب، بل محاولة لالتقاط ما تبقّى من يقين. وفي التفاصيل الصغيرة، لحظة يد الأب على كتف ابنه، ارتجافة يوسف في الطواف، بكاء والده حين يهمس بالدعاء باسمه، ينحت الفيلم رحلة تعاف أكثر منها رحلة عبادية، ويمنح الأب ابنه مساحة ليعيد ترتيب روحه، ويمنح الحج لهما فرصة نادرة لترميم علاقة شعثها الزمن.
في أوغندا، يقف زوجان بسيطان أمام الكاميرا ويقولان بوضوح عفوي: «لسنا متدينين كثيراً... لكننا نعرف أن الحج ركن عظيم»... كلمات تبدو عادية، لكنها تخفي خلفها سنوات طويلة من محاولات الإنجاب التي لم تُكتب لها نتيجة، حيث يروي الزوجان كيف خصّصا كل ما ادّخراه للحج، وكيف توقّفا عن شراء «الأشياء الرفاهية» لأجل ذلك.
تتصدّر الزوجة المشهد بعفويتها ودموعها في يوم عرفة، تتوسّل بلا انقطاع، كأنها تحمل على كتفيها ثقل الضغوط العائلية والمجتمعية التي طاردتها لسنوات. وبعد العودة إلى أوغندا، يعود الفيلم إليهما في واحدة من أكثر لحظاته تأثيراً، حيث يعلن أن الزوجة حامل. وبعد أشهر تُنجب ابنة تغيّر شكل الأسرة كلّه، ولا يتعامل وارد مع الحدث بوصفه معجزة، بل بوصفه بُشرى، وواحدة من تلك اللحظات التي يدخل فيها اليقين القلب من بابٍ لا يراه أحد.
من بريطانيا تأتي واحدة من أكثر الحكايات عمقاً، لزوج من الصم، ترافقه زوجته مريم التي تولّت دور المترجمة طوال الرحلة، لكن التركيز هذه المرة ليس على الزوج، بل على مريم نفسها، فهي امرأة تخفي وراء ابتسامتها فوبيا من الحشود، وقلقاً اجتماعياً يربك تواصلها مع الآخرين. وفي مكة، حيث لا هروب من الزحام، تجد مريم نفسها فجأة في مواجهة أقسى مخاوفها.
في لقطات حقيقية وشفافة، نراها تتعثر، ترتبك، تلتفت يميناً ويساراً كمن يبحث عن مخرج. لكن الحج - كما يُبيّن الفيلم - ليس مكاناً للانكسار، بل للاكتشاف. وحين تعود مريم إلى برمنغهام، تعترف بأنها تغيّرت، قائلة: «لم أعد الشخص ذاته»، تقول وهي تبتسم: «تجاوزت شيئاً كبيراً»، وتترك الجملة معلّقة، كأنّها تشير إلى أن الطريق إلى مكة لم يكن يتجه جنوباً فحسب، بل إلى داخلها أيضاً.
آباء وأمهات يغيّرهم الحج
ومن قلب كينيا، تعرف الكاميرا طريقها إلى رجل آخر، لكنه هذه المرة ليس حاجاً، بل مرافق لآلاف الحجاج عبر ثلاثة عقود، عبر قائد حملة كيني يروي تجربته في خدمة ضيوف الرحمن، وتلمع عيناه حين يتحدث عن ابنه الصغير، الذي يحلم بأن يواصل المسيرة من بعده، ما يمنح الفيلم صوتاً نادراً لفئة لا تظهر كثيراً في الأعمال الوثائقية، وهم أولئك الذين يعيشون موسم الحج عاماً بعد عام، يحفظون تفاصيله، وينقلون خبرته جيلاً بعد جيل، ويعرفون معنى العطاء وسط المدّ البشري أكثر من أي أحد آخر.
أما من رينهام في المملكة المتحدة، فتأتي قصة امرأة بريطانية لم تستطع أداء الحج إلا بصحبة ابنها حمزة، بوصفه محرماً. يتحوّل الحج إلى مساحة لإعادة اكتشاف العلاقة بينهما. وفي لقطات صادقة، تُرى الأم وهي تحاول إخفاء دهشتها من نضج ابنها، فيما يمشي حمزة بجوارها بثقة تُشعرها بالأمان.
ويمضي الفيلم إلى لندن، حيث تعيش امرأة تركت الصلاة فترةً طويلة ثم شعرت بإحساس عميق بعدم الارتياح، قبل أن تقرر تغيير مسار حياتها، ونظرة واحدة في عينيها تكفي لتفهم أن الحج بالنسبة لها ليس قراراً عابراً، حيث تقول: «أريد تهذيب روحي»، وهي تستعد للسفر مع زوجها الذي يمر هو الآخر بأزمة ضياع روحي بعد سنوات ابتعد فيها عن العبادة.
يقرر الزوجان خوض الرحلة معاً، كأنهما يختبران إمكانية بناء حياة جديدة فوق أرضٍ أكثر ثباتاً، وخلال الحج، يتغيّر شيء داخلهما، إذ يقتربان، يتساندان، ويبدو أنّهما يجدان في رحلة المشاعر والإيمان ما لم يجداه في المحاولات اليومية، وفي واحدة من أجمل لقطات الفيلم، يتبادل الزوجان نظرة صامتة في يوم عرفة، نظرة تكفي لتشرح كل شيء.
لوحة إنسانية تجمعها مكةلا يقدم «المد البشري» الحج بوصفه حدثاً ضخماً فحسب، بل بوصفه حدثاً فردياً، فلا الجموع هي البطل، ولا الشعائر، بل هؤلاء الأفراد الذين يقفون في قلب الزحام، حاملين قصصهم السرية، جروحهم، رغباتهم، صلواتهم، أسئلتهم التي لا يجرأون على قولها بصوتٍ مرتفع. ويمزج المخرج وارد بين أصوات أبطاله، كما يتيح لهم مساحات طويلة للسرد، لتتكوّن من القصص الست لوحة كبيرة، تتجاوز الحدود الدينية والجغرافية، وتكشف عن أن الحج بكل روحه وقدسيته ليس فقط رحلة نحو مكان، بل رحلة نحو الذات.
The extension has been updated. Please reload page to enable spell and grammar checking.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير




