أخبار عاجلة
جائزة الكتاب العربي تحتفي بالضاد الأحد -

السعودية بين قطبين: كيف توازن الرياض علاقاتها مع واشنطن وبكين؟

السعودية بين قطبين: كيف توازن الرياض علاقاتها مع واشنطن وبكين؟
السعودية بين قطبين: كيف توازن الرياض علاقاتها مع واشنطن وبكين؟
محمد بن سلمان
الأربعاء 10 ديسمبر 2025 10:52 مساءً Article Information
    • Author, سارة فياض
    • Role, بي بي سي عربي
  • قبل 6 دقيقة

شهد ربيع عام 1988 واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ العلاقات السعودية-الأمريكية.

فلم تكد تسعة أشهر تمضي على تولّي السفير الأمريكي هوم هوران مهامه في الرياض، حتى أبلغت المملكة واشنطن بأنها لا ترغب في الاستمرار بالتعامل معه، في سابقة غير مألوفة.

ورغم تأكيد مسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية لصحف أمريكية آنذاك أنّ "لا سبب واحدا يقف وراء إنهاء مهام" الدبلوماسي المخضرم، فإن التوقيت كان لافتا.

فقد جاء القرار بعد أسابيع فقط من تَكشُّف شراء السعودية، سرا، صواريخ باليستية من الصين، في خطوة فاجأت واشنطن واعتُبرت خروجا على اعتماد الرياض الطويل على السلاح الأمريكي.

وفي مقابلة تلفزيونية عام 2021، قال أحمد القطان وزير الدولة السعودي للشؤون الإفريقية حينها، إن الملك فهد، الذي حكم السعودية بين عاميْ 1982 و2005، غضب من لهجة هوران، الذي كُلّف بإيصال رسالة احتجاج رسمية من واشنطن بشأن الصفقة الصينية.

وأضاف القطان أن الملك أقسم يومها "ألا يبيت هوران في الرياض"، وبالفعل نُقل السفير تلك الليلة إلى الظهران شرقي المملكة، ومنها إلى واشنطن دون عودة، بحسب قطان.

الرئيس الأمريكي رونالد ريغان صحبة ملك السعودية فهد بن عبد العزيز والأمراء بندر وسعود في البيت الأبيض

صدر الصورة، GETTY

التعليق على الصورة، كشف شراء السعودية صواريخ صينية عام 1988 استعداد الرياض للبحث عن بدائل خارج المظلة الأمريكية

وبغضّ النظر عن التفاصيل الدقيقة للواقعة، فقد كشفت استعداد الرياض للبحث عن بدائل خارج المظلّة الأمريكية حين تتردد واشنطن في تلبية طلباتها الدفاعية، ومثّلت أول إشارة إلى تطوّر العلاقات السعودية-الصينية، التي ستتبدّل ملامحها بالكامل خلال العقود التالية.

تغيّر الكثير منذ ذلك الوقت. فالصين التي كانت قوة ناشئة في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أصبحت اليوم قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي، وهي مجالات تشكّل ركائز أساسية في رؤية "السعودية 2030" لتنويع اقتصاد المملكة بعيدا عن النفط. ما يضع الرياض، أكثر من أي وقت مضى، بين مسارين متوازيين تمثّلهما كل من واشنطن وبكين.

"علاقة شخصية حميمة"

يؤكد الكاتب والمحلل السعودي علي الشهابي، أن العلاقة بين الرياض وواشنطن "علاقة مؤسسية راسخة منذ عقود"، مشيرا إلى أنها "ظلت متينة حتى في المراحل التي شابتها توترات سياسية".

ويرى الكاتب، المقيم في الولايات المتحدة، أن العلاقة اليوم هي في "أفضل حالاتها"، نظرا لما يصفه بـ"العلاقة الشخصية الحميمة"، التي تربط بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

ويشير الشهابي إلى أن هذا الأمر تجلّى بوضوح خلال الزيارة الأخيرة التي أجراها بن سلمان إلى العاصمة الأمريكية، والتي شهدت توقيع حزمة واسعة من الاتفاقات، امتدت من التعاون الدفاعي، إلى التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي.

لكنه يشدد في المقابل، على أنّ ارتباط بن سلمان بواشنطن، لم يكن وليد هذه العلاقة فحسب، بل ظل قويا حتى في أكثر اللحظات حساسية، بما في ذلك مرحلة ما بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018.

فعلى الرغم من أن القضية أثارت حينها غضب الكونغرس والرأي العام الأمريكي، يؤكد الشهابي أنّ "هذا الملف طُوي منذ وقت طويل"، بدءا من زيارة الرئيس جو بايدن إلى جدة في يوليو/تموز 2022، وما تبعها لاحقا من زيارة الرئيس ترامب إلى الرياض في مايو/أيار من العام الجاري، وصولا إلى زيارة ولي العهد الأخيرة إلى الولايات المتحدة.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في البيت الأبيض

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، شهدت زيارة ولي العهد السعودي إلى واشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 توقيع حزمة واسعة من الاتفاقات

وبينما يتفق كثيرون مع قراءة الشهابي، بأن زيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى واشنطن جسّدت عمق الشراكة السعودية-الأمريكية، فإن هناك من يرى أن هذه الزيارة انطوت أيضا على بُعد آخر بدا لافتا.

فالقطاعات التي توسّعت عبرها الاتفاقات السعودية-الأمريكية، من الذكاء الاصطناعي إلى الصناعات المتقدمة والطاقة، هي نفسها التي بنت من خلالها بكين حضورها المتنامي والعميق داخل الاقتصاد السعودي خلال السنوات الماضية. وهكذا بدت الصين، وإن غابت عن المشهد السياسي المباشر للزيارة، حاضرة بقوة في الخلفية.

يؤكد الباحث في معهد واشنطن، جون روملي، هذا الحضور الخفي للصين.

ويشير إلى أن توسّع التعاون السعودي-الأمريكي في مجالات التكنولوجيا والدفاع، يرتبط مباشرة بطموحات المملكة لمرحلة ما بعد النفط. فالسعودية تسعى، بحسبه، إلى بناء اقتصاد متنوع، يقوم على الصناعات المتقدمة والذكاء الاصطناعي والتقنيات العسكرية، بما يتيح لها التحول إلى "مركز تكنولوجي وعسكري عالمي وتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي".

ويضيف: "السعوديون يرون دولا مثل تركيا وكوريا الجنوبية وإسرائيل، والتي تمتلك قطاعات تكنولوجية وعسكرية متقدمة وتستخدمها لتعزيز قوتها الاقتصادية وخدمة مصالحها… وهم يريدون ذلك أيضا."

لكن هذه الطموحات، برأيه، تضع السعودية في قلب التنافس الأمريكي-الصيني، فواشنطن وبكين تستثمران بقوة في القطاعات نفسها التي تراهن عليها الرياض، وتبنيان شبكات نفوذ عبر التكنولوجيا والدفاع والطاقة النظيفة، ما يجعل المملكة لاعبا محوريا في هذا "التنافس العالمي" بينهما.

الصين: "الزبون الأهم"

عندما وافقت الصين على بيع السعودية صواريخ باليستية عام 1988، لم تكن بين البلدين علاقات دبلوماسية كاملة. فتبادل السفراء بينهما لم يحدث إلا في عام 1990، حين اعترفت السعودية رسميا بجمهورية الصين الشعبية، وسحبت اعترافها بتايوان.

في تلك المرحلة، كانت بكين قد تجاوزت الإطار "الأيديولوجي الثوري"، الذي يقول الدكتور جاي بورتن، مؤلف كتاب " الصين وصراعات الشرق الأوسط"، إنه طبع علاقاتها بالدول العربية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

لكن رغم هذا، لم تكن بكين تنظر للخليج بعد، "كساحة استراتيجية مهمة لها"، كما يؤكد بورتن، فهي لم تكن قد دخلت بعد مرحلة الاعتماد المتزايد على واردات الطاقة.

الرئيس الصيني تشي جينغ بينغ مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في البيت الأبيض

صدر الصورة، AFP via Getty Images

التعليق على الصورة، تعد الصين أكبر مستورد للنفط السعودي

لكن ذلك تغيّر جذريا بعد عام 1993، حين أصبحت الصين مستوردا للنفط، لتبرز الدول العربية النفطية، وعلى رأسها السعودية بسرعة، بوصفها مورّداً رئيسياً، لسلعة أصبحت تمثّل عصب النمو الاقتصادي الصيني.

عمّق هذا التغير من العلاقة الاقتصادية التي ربطت الصين بالسعودية وغيرها من دول الخليج، والتي استندت إلى مبدأ "النفط مقابل السلع المُصنَّعة"، دون أن يكون لها أبعاد سياسية أو أمنية كبيرة.

ويقول الباحث في مركز واشنطن غرانت روملي إن هذا الطابع الاقتصادي الخالص للعلاقة كان مريح للسعودية وغيرها من دول الخليج، التي رأت في بكين شريكا لا يربط تعامله بقضايا الديمقراطية أو حقوق الإنسان، ولا يتدخل في شؤونها الداخلية، بخلاف المقاربة الغربية التقليدية.

بدوره يؤكد الباحث السعودي علي الشهابي، أن هذا الارتباط النفطي، ما زال يشكّل حجر الأساس، في العلاقات السعودية-الصينية، رغم توسّع هذه العلاقات في مجالات أخرى خلال العقد الأخير.

ويقول: "الصين أكبر مستورد للبترول السعودي، وهذا وحده يجعل العلاقة بين البلدين، علاقة استراتيجية لا يمكن المساس بها… فإذا كان النفط هو الملك، فالصين هي الزبون الأهم."

بالنسبة للشهابي، تمثل علاقة الاحتياج المتبادل تلك، واقعا اقتصاديا "تقرّ به واشنطن"، وتدرك أنه لا "يمكن لها تغييره".

تعكس الأرقام هذا التحليل؛ إذ تظهر أن الصين كانت في السنوات الأخيرة، تستورد نحو 48 مليون برميل من النفط السعودي شهريا – ما يعادل نحو 1.5 إلى 1.6 مليون برميل يوميا - لتظل أكبر مشترٍ للخام السعودي بفارق واسع.

في المقابل، تراجعت الصادرات النفطية السعودية إلى الولايات المتحدة، إلى نحو 300 ألف برميل يومياً فقط، بعد أن كانت تتجاوز مليون برميل يومياً مطلع الألفية، في تحول يعكس انتقال الثقل النفطي نحو الشرق.

"معادلة كوينسي"

النفط شكل كذلك الركيزة الأساسية للعلاقة التي جمعت السعودية بالولايات المتحدة.

بدأ هذا المسار مع منح الرياض حق التنقيب عن نفطها لشركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا" الأمريكية في ثلاثينات القرن الماضي، قبل أن يتكرّس أكثر عام 1945 خلال اللقاء الذي جمع العاهل السعودي وقتها عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن البارجة "كوينسي"، والذي نسج خلاله الزعيمان ما أصبح لاحقا أساس ما بات يُعرف بـ "معادلة كوينسي": دعمٌ أمني أمريكي لمملكة كانت حينها ناشئة ومحاطة بجيران أقوى منها، مقابل ضمان الحصول على إمدادات مستقرة من نفط هذا البلد.

الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مع الملك عبد العزيز آل سعود، على متن السفينة الأمريكية

صدر الصورة، AFP via Getty Images

التعليق على الصورة، تنظر الرياض إلى واشنطن بوصفها "الشريك الأمني الأهم والأكثر موثوقية"

ورغم تراجع اعتماد واشنطن على النفط السعودي، يرى الكاتب علي الشهابي أن المملكة لا تزال تنظر إلى الولايات المتحدة بوصفها "الشريك الأمني الأهم والأكثر موثوقية".

لكن هذه الشراكة لم تكن دائما على مستوى التوقعات السعودية، بحسب الشهابي، الذي يشير إلى شعور الرياض بـ"خيبة أمل" إزاء ردّ الفعل الأمريكي على الهجوم الذي استهدف منشآتها النفطية عام 2019، وأعلنت جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن مسؤوليتها عنه.

مع ذلك، يؤكد الكاتب السعودي المقيم في واشنطن، أن الاتفاق الأمني الذي تم التوصل إليه خلال زيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى الولايات المتحدة، "يسدّ هذه الثغرة" ويعيد ترتيب أسس التعاون الدفاعي بين الجانبين.

يتفق الباحث في معهد واشنطن غرانت روملي مع هذه الرؤية، إذ يشير إلى أن الاتفاق يمثّل "ترقية نوعية" للعلاقة الأمنية بين البلدين، لأنه يفتح المجال "أمام تعاون دفاعي أوسع بكثير، من مجرد صفقات السلاح التقليدية".

ورغم أن سبع دول عربية هي: مصر، والأردن، والبحرين، والكويت، وقطر، وتونس، والمغرب، سبقت السعودية إلى نيل صفة "حليف رئيسي من خارج الناتو" التي تم الإعلان عن منحها للرياض خلال زيارة بن سلمان الأخيرة، يرى روملي، أن السعودية حظيت بما لم تحصل عليه أي دولة عربية.

إذ يشير إلى إعلان موافقة إدارة ترامب على بيع السعودية أنظمة عسكرية متطورة من بينها طائرات F-35.

لا يزال إتمام هذه الصفقة بحاجة إلى موافقة الكونغرس، لكن روملي يقول إنّ واشنطن قدّمت للرياض هذا الامتياز، دون أن تربطه بانضمام المملكة للاتفاقات الإبراهيمية، على خلاف ما حدث مع الإمارات التي تم ربط بيع هذه الطائرات لها بتوقيعها على تلك الاتفاقات عام 2020، قبل أن تتعثر الصفقة لاحقا لأسباب فنية وسياسية.

ويرى روملي أن هذه الخطوة من جانب إدارة ترامب تجاه الرياض، تعكس رغبة واضحة من جانب واشنطن في "دمج السعودية في المعادلة الأمنية والتكنولوجية الأمريكية"، ومنحها موقعا متقدما داخل تكتل الحلفاء، الذين يحصلون على أكثر المنظومات حساسية في ترسانة الولايات المتحدة.

استعراض لطائرات F – 35 الأمريكية فوق البيت الأبيض أثناء زيارة محمد بن سلمان

صدر الصورة، AFP via Getty Images

التعليق على الصورة، وافقت إدارة ترامب على بيع السعودية طائرات أف – 35 دون أن تربط ذلك بانضمام المملكة للاتفاقات الإبراهيمية

وبعيدا عن صفقات الأسلحة، يؤكد علي الشهابي أن الولايات المتحدة تظل الشريك الوحيد القادر "على توفير المظلّة الأمنية التي تحتاجها السعودية"، بفضل حضورها العسكري الواسع في الخليج، ومنظومات الردع والدفاع التي بنتها عبر عقود.

ويقول إن هذه كلها أمور تعجز الصين عن القيام بها كونها "ليست قوة عسكرية فاعلة في الشرق الأوسط"، ولا تمتلك شبكة التحالفات أو البنية العملياتية، التي تسمح لها بلعب دور أمني مماثل للدور الأمريكي.

يتفق الدكتور جاي بورتن مع هذه الرؤية، ويشير إلى أن دور الصين في الجانب الأمني يبقى "تكميليا".

يؤكد بورتن أن ما تقدّمه بكين للرياض اليوم من مسيّرات مسلحة أو أنظمة تسليح ترفض واشنطن بيعها للمملكة، يبقى في إطار سدّ الفراغات، وليس إعادة تشكيل معادلة الأمن الإقليمي.

فانخراط الصين مع دول الخليج العربية، بحسبه، كان ذا طابع "اقتصادي وتنموي" بالدرجة الأولى.

شراكة الرؤى

في هذا الإطار توسعت العلاقة بين السعودية والصين، من مجرد صيغة "النفط مقابل السلع المُصنَّعة"، لتشمل التعاون في مجالات التكنولوجيا، والاتصالات، والطاقة المتجددة، بالإضافة إلى بعض الجوانب الدفاعية، والبنية التحتية الرقمية، بل وحتى بحث التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية، حسبما يؤكد بورتون.

وبالفعل شهد العقد الأول من الألفية، تنفيذ شركات صينية مشاريع بنى تحتية ومقاولات داخل المملكة.

لكن النقلة النوعية حصلت مع إطلاق الصين مبادرة "الحزام والطريق" عام 2013، التي أوجدت إطاراً مُنَظِماً لتوسع نطاق النفوذ الاقتصادي والاستثماري للصين حول العالم.

ويشير بورتن إلى أنّ السعودية احتلّت موقعاً مركزياً في الحسابات الصينية، نظراً لضخامة اقتصادها ومشاريعها التنموية، وفي مقدمتها "رؤية 2030"، التي بدت — من منظور الصين — متوافقة مع الطموحات الاقتصادية لمبادرة "الحزام والطريق".

وتُظهر البيانات الاقتصادية، أن المملكة شكّلت أكبر وجهة عربية لرأس المال الصيني خلال العقد الأخير. وتشير تقارير دولية، إلى أن السعودية استقطبت ما يفوق ربع إجمالي الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بين عاميْ 2013 و2023.

لوحة عليها شعار عملاق النفط السعودي أرامكو في الظهران

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، شكلت السعودية أكبر وجهة لرأس المال الصيني خلال العقد الأخير

وقد تركزت هذه الاستثمارات في قطاعات الطاقة، والبنى التحتية، والتكنولوجيا، والصناعات التحويلية، وجاءت منسجمة مع مشاريع رؤية السعودية 2030، ما جعل الشركات الصينية لاعبا أساسيا في مشاريع مشتركة مع "أرامكو"، وفي مجالات مثل البتروكيماويات والمناطق الصناعية، فضلا عن مشاريع الطاقة الشمسية حيث شاركت شركات صينية في بناء محطات لتوليد الطاقة الشمسية في مناطق مختلفة من المملكة.

أما التجارة الثنائية فقد شهدت نموا ملحوظا خلال السنوات الماضية، ليتجاوز حجم التبادل التجاري بين الرياض وبكين 107 مليارات دولار في عام 2024.

وبات الحضور الصيني واضحا في مواقع شديدة الحساسية داخل البنية الرقمية السعودية، بما في ذلك قطاعات ترتبط مباشرة بعمل شركة أرامكو، عملاق النفط العالمي، والتي يجري الاعتماد على منصات وتقنيات صينية، داخل مراكز البيانات التابعة لها.

وفي قطاع الاتصالات، تعتمد أجزاء واسعة من الشبكات السعودية، على تجهيزات شركة هواوي الصينية، بينما تسهم شركات صينية أخرى في إنشاء مراكز حوسبة سحابية، وبرامج تدريب، إضافة إلى مراكز بيانات ضخمة مخصصة لدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي، والتخزين السحابي، والمدن الذكية داخل المملكة.

"سقف أعلى من الالتزامات"

ويبدو أن هذا الحضور يثير قلق واشنطن، التي ترى في هذه القطاعات خطوط تماس مباشرة مع المنافسة الاستراتيجية القائمة بينها وبين بكين.

ويرى الباحث في معهد واشنطن، غرانت روملي، أنّ جانبا كبيرا من القلق الأمريكي في هذا الشأن يرتبط بـ "الخشية من وصول التقنيات الأمريكية إلى شركات التكنولوجيا الصينية".

ويضيف بالقول إنه عندما تشتري دول مثل السعودية تجهيزات صينية في قطاعات حساسة كالاتصالات، في الوقت الذي تستخدم فيه المملكة أيضا تكنولوجيا أو بنى تحتية أمريكية، فإن طبيعة هذه الأنظمة قد تتيح "جمع بيانات أو التقاط بعض من التقنيات الأمريكية".

كما يشير روملي إلى مصدر قلق ثانٍ، يتعلق بوجود فنيين أو موظفين من الشركات الصينية، داخل مواقع قد تحتوي على معلومات أو تقنيات أمريكية حساسة. ويقول إن "ممارسات الاستخبارات الصينية، الموثقة جيدا"، تجعل وجود هؤلاء الفنيين أو الموظفين على الأرض، عامل مخاطرة قد يعرّض تلك المعلومات للاختراق أو التسرب.

جنسنغ هوانغ مؤسس شركة إنفيديا ومديرها التنفيذي حاملا واحدة من الرقائق التي تصنعها الشركة

صدر الصورة، Anadolu via Getty Images

التعليق على الصورة، وافقت إدارة ترامب على تصدير رقائق "إنفيديا" المتطورة إلى السعودية

أما البعد الثالث للمخاوف الأمريكية، فيتعلق، كما يقول روملي، بكيفية استخدام التكنولوجيا نفسها.

يؤكد روملي أن واشنطن تخشى أن يؤدي توسّع دول الخليج في استيراد الأنظمة الصينية المتقدمة إلى "تبنّي ممارسات حوكمية" مستوحاة من نموذج بكين في إدارة البيانات والرقابة الرقمية "داخل نظامها السلطوي".

لكنه يوضح أن أهمية هذا البعد تختلف من إدارة أمريكية إلى أخرى، وأن "بعض الإدارات تضع قضايا الحوكمة والديمقراطية في صميم سياستها الخارجية، بينما تركز إدارات أخرى، كما هو الحال مع الإدارة الحالية، على البعد التكنولوجي البحت والمنافسة مع الصين".

رغم هذه المخاوف، وافقت إدارة ترامب على تصدير رقائق "إنفيديا" المتطورة إلى السعودية، في تحوّل عن النهج الذي اتبعته إدارة جو بايدن، التي كانت قد فرضت قيودا صارمة على تصدير هذا النوع من المُعالِجات، إلى عدد من دول الشرق الأوسط.

ويرى علي الشهابي أن واشنطن لم تكن لتُقدم على هذه الخطوة، لولا حصولها على ضمانات كافية من الرياض بشأن حماية التكنولوجيا الأمريكية، ومنع وصولها إلى أطراف ثالثة، مشيرا إلى أنّ السعودية "تعرف حساسية هذا الملف جيدا."

لكن روملي يرى أن حصول السعودية على أكثر التقنيات الأمريكية، تطورا يجب أن يقترن بـ "سقف أعلى من الالتزامات" من جانب الرياض

ويؤكد الباحث في معهد واشنطن، أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى فرض ما وصفه بـ "علاقات حصرية" على شركائها في الشرق الأوسط، لكنها تتبنّى معيارا مختلفا عندما يتعلق الأمر بالدول، التي تستضيف قوات أمريكية أو تمتلك أنظمة تسليح أمريكية متقدمة.

ويضيف: "الولايات المتحدة طلبت من اليابان والمملكة المتحدة إزالة تجهيزات `هواوي` من شبكات الجيل الخامس لأنها تمتلك قدرات عسكرية أمريكية متقدمة وتستضيف قوات أمريكية، وبالتالي، إذا أرادت السعودية أو الإمارات الوصول إلى درة تاج التكنولوجيا الأمريكية فإن المعايير ستكون أعلى".

في هذا السياق، يشير روملي إلى التصريحات التي نقلتها وكالة بلومبيرغ عن أميت ميدا، الرئيس التنفيذي لشركة "آلات" التابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، والعاملة في مجال أشباه الموصلات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حول استعداد الرياض للتخلي عن الشراكة مع الصين في مجال التكنولوجيا إذا طلبت واشنطن ذلك.

وكانت بلومبيرغ قد نقلت عن ميدا قوله: "حتى الآن كانت الطلبات هي إبقاء سلاسل التصنيع والتوريد منفصلة تماما ، لكن إذا أصبحت الشراكات مع الصين مشكلة بالنسبة للولايات المتحدة، فسنسحب استثماراتنا". يعلق روملي قائلا: "ربما يجب أن نختبر مدى دقة هذا التصريح في المرحلة المقبلة".

الرياض وبكين: من شراكة إلى منافسة؟

لا يقتصر التعاون التكنولوجي بين الرياض وواشنطن على السماح بتصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة، بل يمتد أيضاً ليشمل ملف المعادن الضرورية لصناعة تلك الرقائق. وقد شهدت زيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى العاصمة الأمريكية، توقيع اتفاقية لتطوير سلسلة مناجم المعادن الأرضية النادرة الموجودة داخل السعودية ومعالجتها.

وبموجب الاتفاق، ستقيم شركة "معادن" السعودية شراكة مع شركة "إم بي ماتيريلز" الأمريكية لتأسيس منشآت مخصصة لاستخراج هذه المعادن ومعالجتها وتكريرها داخل المملكة، وصولا إلى تصنيع المغناطيسات عالية الأداء التي تُعدّ مكوّناً أساسياً في الصناعات التكنولوجية المتقدمة، من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، إلى تقنيات الطاقة المتجددة، وصولا إلى الصناعات الدفاعية.

عينات من النحاس معروضة في جناح الشركة السعودية للتعدين في معرض إندابا في أفريقيا

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، وقعت واشنطن مع الرياض اتفاقاً لتطوير مناجم للمعادن النادرة في السعودية

ترى واشنطن في هذا المشروع خطوة محورية نحو كسر الهيمنة الصينية شبه الكاملة على سلاسل توريد المعادن النادرة، التي تمثل العمود الفقري لمعظم الصناعات التكنولوجية والعسكرية الحديثة.

قد يضع هذا المشروع، في حال تحقيقه لأهدافه، السعودية في موقع المنافس داخل سوق تعدّ الصين اللاعب المهيمن عليها بلا منازع. وهو احتمال لا يزال نظريا، لكنه بدأ يلفت انتباه بكين.

ويقول الدكتور جاي بورتن إنّ هناك إدراكا متزايدا داخل الأوساط الصينية بأنّ العلاقة مع السعودية، رغم كونها تقع اليوم ضمن إطار "الشراكة"، قد تتحول في بعض القطاعات إلى منافسة حقيقية، مع توسّع طموحات المملكة في الصناعات المتقدمة وسلاسل التوريد الاستراتيجية، ومحاولتها بناء قاعدة صناعية تتجاوز دور المورّد التقليدي للنفط.

استثمارات "شكلية"

تأتي الشراكات التكنولوجية والتحالفات الجديدة التي تبنيها السعودية، في صلب سعيها لتنفيذ "رؤية 2030"، التي تقوم في جوهرها على إعداد المملكة لاقتصاد ما بعد النفط. وتشمل هذه الرؤية مجموعة واسعة من الأهداف الطموحة، من بينها توطين 50% من الصناعات العسكرية بحلول عام 2050، وبناء البنية التحتية القادرة على التعامل مع نحو 6 في المئة من حركة الذكاء الاصطناعي العالمية، عبر توسيع مراكز البيانات، وتعزيز القدرات الحوسبية داخل المملكة.

يقرّ الكاتب والمحلل السعودي علي الشهابي، بأن بعض هذه الأهداف "بالغة الطموح"، وربما تتطلب وقتا أطول مما تذكره الخطط الرسمية، لكنه يشدد في المقابل على أن لدى المملكة مقوّمات أساسية، تؤهلها للعب دورٍ محوري في اقتصاد المستقبل. فوفرة الطاقة منخفضة الكلفة، كما يقول، تمنح السعودية ميزة نسبية فريدة في بناء وتشغيل مراكز البيانات الضخمة، وهي عنصر حاسم في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.

ويضيف الشهابي أن التحدي الأكبر يكمن في نقص الكفاءات البشرية السعودية القادرة على تشغيل وصيانة الأنظمة المتقدمة وإدارة مشروعات الذكاء الاصطناعي. لكنه يرى أن هذا التحدي قابل للمعالجة عبر استقطاب الخبرات الدولية وتطوير برامج تدريب محلية واسعة.

غير أنّ التحديات التي تواجهها "رؤية 2030"، لا تقتصر على نقص الكفاءات البشرية المحلية التي تحتاجها المملكة لتنفيذ مشاريعها التكنولوجية والصناعية. ففي الأشهر الماضية، اضطرت الحكومة السعودية إلى إلغاء عدد من المشاريع العملاقة المرتبطة بالرؤية أو تقليصها، بفعل ضغوط مالية ناتجة عن تراجع أسعار النفط. ويعكس هذا الأمر مفارقة جوهرية في مسار التحول الاقتصادي في السعودية؛ إذ لا تزال مشروعات "الاقتصاد ما بعد النفط" ممولة إلى حدّ كبير من عوائد النفط نفسها، ما يجعلها عرضة لتقلبات السوق العالمية.

نساء سعوديات يحضرن فعالية حول

صدر الصورة، AFP via Getty Images

التعليق على الصورة، : تواجه "رؤية 2030" عدة تحديات

وتزداد هذه الضغوط تعقيدا مع التوقعات الأمريكية بأن تضخ الرياض استثمارات ضخمة في اقتصاد الولايات المتحدة، في وقت تحتاج فيه المملكة إلى استقطاب مزيد من الاستثمارات إلى الداخل لتمويل خططها الطموحة. فقد أعلن الأمير محمد بن سلمان خلال زيارته في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى واشنطن، نية زيادة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، إلى تريليون دولار خلال السنوات المقبلة.

لكنّ علي الشهابي يقلل من واقعية هذا الرقم، قائلاً إن جزءا كبيرا منه "شكلي أكثر مما هو فعلي"، وإن الإعلان جاء "تماشيا مع أسلوب الرئيس ترامب الذي يفضّل الأرقام الضخمة". ويشير الشهابي إلى أن ما أُعلن عنه يشمل تعهدات، تمتد لسنوات طويلة، ومذكرات تفاهم غير ملزمة، إضافة إلى استثمارات ستأخذ شكل شراء تكنولوجيا أمريكية، يجري لاحقا تصنيع بعض مكوناتها داخل السعودية.

تايوان: "الاختبار الحقيقي"

علم الصين والولايات المتحدة وبينهما خارطة لتايوان

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، قد يمثل اندلاع صراع حول تايوان "الاختبار الحقيقي" لقدرة الرياض على الموازنة بين بكين وواشنطن

رغم هذه التعقيدات والضغوط المتقاطعة، تبدو السعودية حتى الآن قادرة على إدارة علاقتها مع كلّ من الولايات المتحدة والصين، بما يخدم مصالحها ضمن هامش المناورة الذي يبدو أنها تتقنه جيدا.

لكن الباحث في معهد واشنطن، غرانت روملي، يحذر من أن هذا الهامش قد لا يبقى متاحا إلى الأبد. إذ يقول إنه في حال اندلاع صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين حول تايوان، قد تجد السعودية نفسها أمام ضغوط غير مسبوقة للاصطفاف مع أحد الطرفين، ما قد يجعل استراتيجية التوازن الحالية، غير قابلة للاستمرار.

غير أن الكاتب السعودي علي الشهابي، يرى أنه سيكون بوسع الرياض الحفاظ على التوازن في علاقاتها مع كل من بكين وواشنطن، حتى في حال اندلاع صراع مسلح حول تايوان، "نظرا لخبرتها الطويلة في هذا المجال". ويدلّل الشهابي على قدرة السعودية وغيرها من دول الخليج، على تجنّب الانحياز المباشر لروسيا أو الولايات المتحدة خلال الأزمة الأوكرانية.

لكن روملي يرى أن الصراع في أوكرانيا لم يختبر الخليج فعلا، على عكس تايوان التي يقول إنها ستمثل "الاختبار الحقيقي" لدول الخليج، وعلى رأسها السعودية، فبحسبه، ستنتظر الصين، في حال اندلاع صراع حول تايوان موقفا واضحا من شركائها، وكذلك ستفعل الولايات المتحدة، نظرا لأن مصالحها في تايوان "أساسية وليست هامشية"، فهي تمثّل، بنظر واشنطن، عصب التفوق التكنولوجي والاستراتيجي العالمي الذي تتنافس الولايات المتحدة والصين للفوز بصادرته. وهو تنافس سينعكس على السعودية بحكم موقعها بين الشريكين، كدولة تعمل على حماية مصالحها وسط تحولات دولية متسارعة.

تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير

السابق ما هي صعوبات الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟

 
c 1976-2025 Arab News 24 Int'l - Canada: كافة حقوق الموقع والتصميم محفوظة لـ أخبار العرب-كندا
الآراء المنشورة في هذا الموقع، لا تعبر بالضرورة علي آراء الناشرأو محرري الموقع ولكن تعبر عن رأي كاتبيها
Opinion in this site does not reflect the opinion of the Publisher/ or the Editors, but reflects the opinion of its authors.
This website is Educational and Not for Profit to inform & educate the Arab Community in Canada & USA
This Website conforms to all Canadian Laws
Copyrights infringements: The news published here are feeds from different media, if there is any concern,
please contact us: arabnews AT yahoo.com and we will remove, rectify or address the matter.