آكيياكا المدينة البطيئة: هل يحافظ التصنيف على هدوئها أم يهدده؟

اخبار العرب -كندا 24: الخميس 4 ديسمبر 2025 04:27 صباحاً دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- قرية آكيياكا، هي من تلك الأماكن التي تتمنى ألا يكتشفها أحد. تقع بين جبال مغطاة بأشجار الصنوبر ومياه نهر أزماك الباردة والصافية.. فتبدو لوحة من السكينة.

تشعر بأنّ البيوت المطليّة باللّون الأبيض ذات الإطارات الخشبية والأسقف المائلة، أنها جزء من الطبيعة المحيطة. وفي الربيع، تعبق رائحة الكينا وأزهار البرتقال في الجو.

كانت آكيياكا في سبعينيات القرن الماضي، مجرّد مستوطنة صيد صغيرة تحوي بيوتًا طوبية عمليّة محاطة بمستنقعات موبوءة بالبعوض في موغلا، جنوب غرب تركيا. ومع نمو السياحة في تركيا وبداية انفتاح بعض مناطق الأناضول على التطوير، كانت آكيياكا على وشك أن تشهد تحولًا كبيرًا.

ولحسن الحظ، بفضل وصول نايل جاكيرهان، الشاعر والمثقف والمعماري العصامي، تحوّلت آكيياكا نحو الأفضل، لا الأسوأ.

عندما انتقل جاكيرهان إلى آكيياكا في العام 1971، للتقاعد مع زوجته، عالمة الآثار هالات تشامبل، كان بإمكانه إمضاء سنواته الأخيرة بهدوء. لكن، وإدراكًا منه لقيمة محيطه الهادئ، شرع في الحفاظ على القرية التي باتت وطنه الجديد بحسب قوله. فقد كان يعلم أنّ هذه الأرض مميّزة، ولم يكن ليسمح بتدميرها.

لم يحصل جاكيرهان على أيّ تدريب رسمي كمهندس معماري، لكن ذلك لم يوقفه. مُستلهمًا من المباني التقليدية في العصر العثماني، بنى منزله على جرف مرتفع يُطلّ على البحر. كان تصميمه تعديلًا عصريًا للعمارة المحلية، يمزج بين طرق البناء التقليدية والمواد الطبيعية. كان المنزل بسيطًا ووظيفيًا ومتناسقًا مع الأرض.

سمح تصميمه بالتهوئة الطبيعية لمواجهة حرارة الصيف اللاهبة. وقدمت الجدران المطلية بالجير الأبيض والأسقف العميقة ظلًا كبيرًا يحمي من الشمس. كما أن الإطار الخشبي التقليدي كان قادرًا على مقاومة الزلازل التي تضرب المنطقة من حين لآخر.

داخل المنزل، كان التصميم متواضعًا إنما عمليًا: أبواب تُطوى داخل تجاويفها، وخزائن خشبية مدمجة للملابس والفراش، وقاعة مركزية ("ديفانهانه") تندمج بسلاسة مع غرفة الحديقة. 

وأكسبه مزجه بين التقاليد والعملية والأناقة  جائزة آغا خان للعمارة المرموقة في العام 1983، وهو قرار أثار جدلًا بسبب افتقاره للتدريب الرسمي.

لم يكن منزله مجرد مكان للعيش، بل أصبح نموذجًا يحتذي به للآخرين.

سرعان ما كلّف الأشخاص المؤثرون محليًا ببناء منازلهم وفق الطراز ذاته. وأدى الطلب على هذه المنازل إلى إحياء الحرف المحلية، لا سيما النجارة، موفرًا فرص عمل وتدريب لجيل جديد من الحرفيين. وهكذا أصبحت رؤية جاكيرهان المعمارية أساس مستقبل آكيياكا.

كان هذا الحراك ناجحًا إلى حد أنه في التسعينيات، عندما وضع المخططون قواعد تقسيم مناطق آكيياكا، تم اعتماد المعايير المعمارية التي وضعها جاكيرهان تقريبًا لجميع المباني الجديدة. لقد أنقذ منزله الصغير المدينة فعليًا من "النمو الخبيث المخيف" للخرسانة التي عارضها.

إن تأثيره ملموس في أرجاء المدينة كلها.

يقول حمدي يوسل غورصوي، رب عائلة فندق يوسلن، وهو منشأة ساحلية واسعة صُممت على الطراز الذي وضعه جاكيرهان. وهو واحد من العديد من السكان المحليين الذين غيّرهم هذا المعماري العصامي، مستذكرًا لقاءاته الأولى في السبعينيات.

كانت أحلام غورصوي مختلفة تمامًا قبل أن يلتقي بنايل. يقول: "كنت تاجرًا، وكان كل شيء بالنسبة لي يقتصر على المال، وكل ما كنت أفكر فيه هو التجارة. غيّرني نايل. تعلمت الاهتمام بأشياء مختلفة: الناس، والطبيعة، والثقافة. أحيانًا يمرّ شخص في حياتك ويغيّرها بالكامل، ونايل كان واحدًا من هؤلاء".

انتقل غورصوي من تزويد جاكيرهان بالأخشاب إلى أن أصبح تلميذه. ويتذكر بوضوح طريقة الشاعر في حل المشاكل المعمارية، غالبًا على كأس من الراكي، المشروب التركي الناري. وعندما خطط لبناء فندقه، استلهم غورصوي مما تعلّمه من معلمه.

يقول: "كنت أنظر إلى السماء ليلاً، وأستمتع بالنجوم، وطيور الصباح، وصوت المياه". ويستذكر: "بدأت أستمتع بهذه الأشياء. أصبحت اليوم أكثر الأشخاص وعيًا بالبيئة في موغلا. أنا مدين بهذا لنايل جاكيرهان وهالات تشامبل".

إنيز تونجا أوزسوي تأثرت أيضًا برؤية جاكيرهان، فهي عملت كمساعدة له قبل أن تنطلق لبناء مسيرة ناجحة في مجال العمارة.

تقول أوزسوي إنّ البيئة التي نشأت في آكيياكا جعلتها بوتقة للحياة الفكرية التركية. وتضيف: "كان يمتلكني شعور كبير بالأمل. كان الأشخاص المثقفون، المثقفون الحقيقيون، هنا". 

اليوم، حصلت آكيياكا على تصنيف "سيتاسلو" العالمي، وهو يعني المدينة البطيئة، ويعترف بالتزام المكان بجودة الحياة والحفاظ على التقاليد. وغالبًا ما يؤدي حصول المدينة على هذا التصنيف إلى زيادة السياحة.

تقع آكيياكا في أعلى خليج غوكوفا الضيق، ويعتبر نقطة التقاء مذهلة بين البر والبحر. وتحيط بها جبال شديدة الانحدار مغطاة بالصنوبر، فيما تمتد أمامها سهول غوكوفا الواسعة التي تُعد ملاذًا للتنوع البيولوجي.

وفي قلب هذا المشهد يجري نهر أزمك البارد. وتنزلق جولات القوارب فوق مياه صافية إلى حد يمكن معه رؤية النباتات والكائنات المائية الكثيفة تحت السطح بوضوح.

قال علي شاهين، وهو من سكان البلدة ومالك مطعم "خليلن يَري"، إن هذا ما يجعل آكيياكا مميزة. "زرت العالم، لكنني لم أرَ مكانًا يجمع بين البحر، والسهل، والجبل، والنهر".

تعود جذور تاريخ آكيياكا إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، إلى تأسيس المدينة الكارية القديمة إيديما. ولا تزال مقابر صخرية محفورة في المنحدرات وقلعة شاهدة على هذا الماضي العميق.

أما عشّاق المغامرة، فيجدون في خليج غوكوفا وجهة مثالية، إذ تشتهر المنطقة برياحها الساحلية المنتظمة، ما يجعلها واحدة من أفضل المواقع عالميًا لممارسة ركوب الأمواج الشراعي"

لكن شعبية آكيياكا المتزايدة باتت تضغط على قدرة البلدة على حماية ما يميّزها.

في السنوات الخمس الماضية، لا سيما بعد جائحة كوفيد، تحولت آكيياكا إلى مغناطيس للذين يريدون الهروب من مدن تركيا الكبرى إلى إيقاع حياة أكثر هدوءًا، تمامًا كما فعل تشاكيرهـان قبل عقود. ويرجح أن تزداد شعبيتها أكثر بعدما أُضيفت أخيرًا إلى قائمة أفضل القرى السياحية التابعة للأمم المتحدة.

ورغم أن النمط المعماري الإلزامي أبقى الأبراج الخرسانية بعيدة، فإن تسارع الحياة والضجيج، ولا سيما في الصيف، قد يتصادمان مع روح البلدة "البطيئة".