الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 05:16 مساءً في كل زمان ومكان، يظهر بين الناس من يختار أن يكون صوت الضمير، وأن يحمل عبء الحقيقة في وجه الظلم. الشهيد أبو عبيدة كان ذلك الإنسان النادر الذي لم يكتفِ بالكلام بل جعل من كلماته أفعالاً تنبض بالحياة، ومن صموده قصة تُروى على ألسنة الأجيال. رحيله ليس مجرد فقدان لاسم أو منصب، بل هو رحيل فارس من فرسان الحق الذين يقفون في وجه الظلم، ويحملون شعلة الأمل في أحلك الليالي.
لم يكن أبو عبيدة مجرّد متحدث عسكري باسم المقاومة، بل كان صوتًا يُشبه ضمير أمةٍ تصارع وجعها بصمت، وتُخبّئ شجاعتها في زوايا الصبر والانتظار. خلف القناع الأحمر، كان يسكن وجهٌ لا نراه، لكنه بدا لنا جميعًا وجه فلسطين حين تنتفض، وصوتها حين تصرخ، وقلبها حين يقسو عليها العالم.
لم نرَ ملامحه، لكننا رأينا هيبة الكلمات حين تخرج من حنجرته، تزن المعنى وتوقظ الرجولة في زمنٍ خفت فيه صوت الكرامة. وبينما كانت الطائرات تُلقي حممها على غزة، كانت عباراته تفتح نوافذ الأمل في قلوب المقهورين، وتجعل للضعفاء في الأرض مكانًا في معادلة الردع.
جاء خبر استشهاده، ومعه خبر استشهاد القائد محمد السنوار، شقيق القائد يحيى السنوار، فارتجّ القلب قبل أن يرتجف اللسان. لم يكن وقع النبأ عادياً؛ لأنك حين تفقد رمزًا مثل أبي عبيدة، فإنك لا تفقد شخصًا، بل تخسر صوتًا جمع شتات أمة، ولخّص معاني العزّة في كلمات مقتضبة، كانت تخرج بترتيبٍ لا يُعلّم في معسكرات التدريب.
لقد اغتالت آلة القتل الإسرائيلية الجسد، لكنها لم تطفئ الشعلة. وهذا هو مأزق الاحتلال: أنه يظن أن المقاومة تُقصف، بينما هي في الحقيقة تُروى بدماء شهدائها. غدرٌ صهيوني لا يتوقف، وهمجية لا تنكسر، لكنها لم تفلح يومًا في كسر إرادة الرجال الذين يصنعون المجد من تحت الركام.
وليس من المبالغة القول إن استشهاد أبي عبيدة سيُعيد ترتيب المشهد. فقد خسر العدو كثيرًا باغتياله، لأن الرموز حين تُغتال، تتحول إلى أيقونات. فكيف إذا كان الرمز قادمًا من قلب الجرح، يتحدث باسم الجراح، ويمضي مبتسمًا إلى لقاءٍ وعد الله به الصادقين؟
قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].
بهذا اليقين تُربّى أجيال المقاومة، وبمثل هذه الكلمات تشحذ العزائم، ويُصنع المجد من تراب الوطن المصلوب.
أبو عبيدة ليس اسمًا يمرّ، بل تاريخٌ كُتب بلغة الدم والتضحية. هو آخر من يغادرنا، وأول من نراه في عيون كل من قال: «إنّا على العهد باقون».الحسين الدومي
مستشار نفسي وأسري
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير
أخبار متعلقة :