Arab News 24.ca اخبار العرب24-كندا

«المهدية» وحرب السودان.. مقاربة جديدة لمسلمات تاريخية

الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 05:16 مساءً في سياق التطور الزمني للدولة السودانية، تتداخل الأحداث التاريخية مع الأزمات المعاصرة، مما يحتم فهم اللحظات التأسيسية التي شكلت الهوية الوطنية. ما عرف بالثورة المهدية، التي تُعتبر رمزا للقداسة في الوعي الجماعي السوداني، تمثل نقطة محورية في هذا السياق. ومع ذلك، فإن التقديس المفرط لهذه الثورة يؤدي إلى إعاقة النقد التاريخي والفلسفي، مما يمنع الغوص في جذور الأزمات المستمرة التي تعاني منها البلاد. تظهر الأزمات الحالية في السودان، مثل انهيار البنية التحتية والصراعات السياسية، كامتداد للأحداث التاريخية التي لم يتم التعامل معها بشكل نقدي.

إن عدم القدرة على استجواب هذه اللحظات التاريخية، مثل الثورة المهدية، قد يحولها إلى قيد يعيق الفهم العميق للأزمات المعاصرة. لذا، من المهم إعادة النظر في هذه اللحظات التاريخية، ليس فقط كرموز مقدسة، بل كجزء من عملية تحليلية تساعد في فهم التحديات الحالية التي يواجهها السودان.

هذا النمط من التعامل مع التاريخ ينسجم تماما مع ما ينتقده المفكر المصري يوسف زيدان في مشروعه الفكري. فزيدان يرى أن أخطر ما يواجه المجتمعات هو تحويل التاريخ من مجال للفهم والتحليل إلى خطاب تعبوي يُستخدم لتكريس الهوية أو شرعنة السلطة. وهو يميّز بوضوح بين التاريخ كعلم يدرس الوقائع في سياقاتها السياسية والاجتماعية، والتاريخ كأسطورة تُنتج أبطالًا بلا أخطاء، وتجعل من نقدهم فعلًا محرّما. في نظره، لا يكمن الخطر في الاعتزاز بالماضي، بل في تقديسه، لأن التقديس يعطّل العقل ويمنع رؤية الأسباب الحقيقية لانهيار الدول وتفكك المجتمعات.

اننطلاقًا من هذا المنهج، تبدو الثورة المهدية مثالًا واضحًا على توظيف المشروعية الدينية توظيفًا رغائبيًا لخدمة أهداف سياسية، بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر جسيمة. لم يطرح محمد أحمد نفسه كقائد ثورة وطنية، بل كـ «المهدي المنتظر» الذي سيملأ الأرض عدلاً. هذه الدعوة نقلت الصراع من «مقاومة مستعمر» إلى «معركة بين إيمان وكفر».

فألغى المهدي المذاهب الفقهية الأربعة والاجتهادات التقليدية، معتبراً أن أقواله مستمدة مباشرة من الحضرة النبوية، مما جعل مخالفته لا تُعد اختلافاً سياسياً، بل خروجاً عن الدين.

الأخطر من ذلك أن آلية إصدار القرار غدت أداة مركزية قمعية، اتسمت بصراعات داخلية دامية ذات طابع جهوي وقبلي واضح. تفجّر الصراع بين ما عُرف بـ «أولاد البحر» من وسط وشمال السودان، وبين النخبة المرتبطة بقبائل غرب السودان، وانتهى هذا الصراع بسياسات إقصاء واسعة، ومجازر، وحملات تطهير استهدفت أحد المكونات الأساسية للمجتمع السوداني. ولم يكن هذا العنف استثناءً، بل جرى تبريره دينيا بوصفه حماية للدعوة ووحدة الدولة، وهو ما حوّل الدين من إطار أخلاقي إلى أداة شرعنة للقمع.

هنا يتحقق تحذير يوسف زيدان بوضوح: حين تتحصّن السلطة بالمقدس، يصبح العنف مشروعا، ويُصوَّر النقد باعتباره خروجا على الدين لا مساءلة لسلطة بشرية. ويتجاوز أثر هذا الإرث حدود التاريخ، ليطلّ بوضوح في المشهد السياسي السوداني المعاصر. ويتجلى ذلك خصوصا في مواقف حزب الأمة، الذي تأسس أصلا على المرجعية المهدوية. فقد بنى رئيس الحزب الحالي فضل الله برمة ناصر، الذي خلف الراحل الصادق المهدي في القيادة، انحيازه لمليشيا الدعم السريع على سردية تاريخية مستلهمة من تجربة الخليفة عبد الله التعايشي، تقوم على استدعاء خطاب المظلومية الجهوية، وإعادة إنتاج ثنائية «أبناء الغرب» في مواجهة «أولاد البحر»، بوصفها أساسا للشرعية السياسية. هذا الاستدعاء الانتقائي للتاريخ لا يعكس قراءة نقدية للمهدية، بل يوظّفها مجددا كأداة تعبئة وانحياز في صراع دموي معاصر.

في المقابل، كان الصادق المهدي -رحمه الله- يقدّم نموذجا مختلفا وأكثر تعقيدا في التعامل مع الإرث المهدوي. فعلى الرغم من كونه حفيد مؤسس المهدية ورمزا دينيا وسياسيا بارزا، تميّز بإسهام فكري عميق وفهم متطور للمشهد السياسي السوداني. وقد تجاوز في أطروحاته السياسية، بصورة ضمنية، كثيرا من أخطاء المهدية التاريخية، دون أن يشنّ نقدا مباشرا أو صريحا للتجربة. كان تجاوزه أقرب إلى إعادة تأويل هادئة، سعى من خلالها إلى التوفيق بين الإرث الديني ومفاهيم الدولة المدنية، والديمقراطية، والتعدد السياسي، مدركا – ولو دون تصريح – أن المهدية كنموذج للحكم لم تعد صالحة للاستنساخ.

وتتسع دائرة أخطاء المهدية لتشمل تضييق التعدد الفقهي والفكري، وسوء الإدارة الاقتصادية، والانغلاق عن المحيط الإقليمي، ما عجّل بانهيار الدولة. غير أن الذاكرة الجمعية آثرت الاحتفاظ بصورة البطولة، لأن الأسطورة أكثر راحة من الحقيقة، ولأن نقد الماضي يُنظر إليه بوصفه تهديدًا للهوية.

وفي هذا السياق، لا تبدو الحرب الدائرة اليوم مجرد مأساة عابرة، بل لحظة تاريخية فارقة تفرض إحداث تغييرات هيكلية عميقة لمنع تكرارها. ومن بين هذه التغييرات ضرورة إعادة كتابة تاريخ البلاد، لا سيما في المناهج التربوية، على أساس الوقائع التاريخية الفعلية لا السرديات المؤدلجة أو المقدّسة. فبناء مجتمع سوداني متصالح مع ذاته يقتضي تفكيك الأخطاء والمرارات التاريخية بدل توريثها للأجيال، تمهيدا للوصول إلى دولة مدنية حديثة، خالية من الصراعات الأيديولوجية والثقافية التي غذّاها تاريخ غير مُنقَّح.

ووفق منظور يوسف زيدان، لا يعني نقد المهدية إنكار بعدها التحرري، بل تحريرها من القداسة، وفهمها كتجربة بشرية لها إنجازاتها وأخطاؤها. فالأمم لا تتقدّم بتمجيد أخطائها، بل بالاعتراف بها، ولا تبني مستقبلها إلا حين تنظر إلى ماضيها بعين العقل لا بعين الأسطورة. وفي السودان، يبدو هذا الدرس أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، لأن ما يتكرّر اليوم هو، في جوهره، إعادة إنتاج قديمة لخلط الدين بالسلطة، ولكن بثمن إنساني أشد فداحة.د. ياسر محجوب الحسين

كاتب سوداني- المملكة المتحدة

تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير

أخبار متعلقة :