الجمعة 26 ديسمبر 2025 01:28 مساءً صدر الصورة، Getty Images
بعد حرب غزة، يدور نقاش دولي حول من يجب أن يحكم القطاع ومن هي السلطة التي يمكن الوثوق بها لإدارة مرحلة ما بعد الحرب في ظل إصرار إسرائيلي على نزع سلاح حركة "حماس" وعدم وجودها في أي هيكل حكم مستقبلي.
وهنا يبرز بشكل واضح ما يمكن أن يكون دوراً للسلطة الوطنية الفلسطينية للمشاركة في حكم غزة، غير أن الولايات المتحدة وإسرائيل دول فاعلة عدة تطلب أولاً أن يتم إصلاح السلطة.
ووضعت هذه الدول شروط ومبادئ عدة تتعلق بإصلاح السلطة الفلسطينية من بينها تعديل المناهج الدراسية والامتناع عن دفع رواتب لأسر القتلى والسجناء ممن يدانون بالإرهاب.
هذا الأسبوع، تعود قضية دفع السلطة الفلسطينية معاشات "للأسرى والشهداء" لتفرض نفسها كواحدة من أكثر الملفات إرباكاً لشرعية السلطة دولياً.
فقد تعاملت القيادة الفلسطينية مع هذه القضية على أنها شأن داخلي وسيادي، وهناك شبه إجماع في تصريحات القيادات الفلسطينية بأنها "رمز وطني لا يمكن المساس به".
فقد أوقفت السلطة الفلسطينية دفع رواتب لأسر السجناء والقتلى الفلسطينيين والتي كانت تتم عبر مؤسسسة تمكين، ما أدى إلى موجة غضب شعبي واحتجاجات، وهو ما دفع الرئيس محمود عباس إلى إصدار بيان عن دور مؤسسة تمكين وبرنامج الإصلاح الذي تتبناه السلطة.
وقال عباس في البيان - الذي نشرته وكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية - إن "الوفاء لتضحيات شهدائنا الأبرار، وأسرانا البواسل، وجرحانا، وعائلاتهم الصامدة، هو التزام وطني وأخلاقي راسخ، لا يخضع للمزايدة أو الاستثمار السياسي، ولا يجوز استخدامه وسيلة للتحريض أو لإثارة الانقسام أو المساس بمؤسسات دولتنا الوطنية الشرعية".
غير أن بيان عباس قوبل بانتقاد حاد من وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الذي اتهم السلطة بأنها تقوم "بإخفاء الاستمرار بهذا النظام من خلال تغيير طريقة الدفع".
ويقول العميد (احتياط) يوسي كوبرفاسر، رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن "لا ينبغي لأحد أن ينخدع بتصرفات عباس فالسلطة الفلسطينية برئاسة عباس تحاول مراراً وتكراراً تضليل العالم من خلال اعتماد شتى الوسائل لمواصلة دفع رواتب للإرهابيين، بينما تزعم في الوقت نفسه أنها تمتثل للمطالب الدولية والإسرائيلية بوقف هذه المدفوعات. غير أن هذه الحيل فشلت".
وتعتبر إسرائيل أن هذه المدفوعات تشجع على العنف، بينما تصفها السلطة الفلسطينية بأنها شبكة حماية اجتماعية لعائلات فقدت معيلها في سياق الصراع.
وقد سنت إسرائيل قوانين تتيح اقتطاع مبالغ مماثلة من أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة) بينما تطالب السلطة الفلسطينية بوقف اقتطاع أموال الضرائب المحتجزة.
صدر الصورة، Getty Images
لكن تصريحات العواصم الغربية تشير إلى أنها لم تعد تفصل بين الخطاب السياسي والممارسة المالية، ولا بين الدعم الاجتماعي وتمويل العنف كما يرونه.
وقد ربطت واشنطن وبعض المانحين الدوليين استمرار الدعم المالي بإجراء إصلاحات، فالكونغرس الأمريكي أقر قانون Taylor Force Act الذي يشترط على السلطة الفلسطينية وقف الدفع للمعتقلين والذين حكم عليهم بتهم تتعلق "بالإرهاب" كشرط لاستعادة أو استمرار المساعدات الأمريكية.
وعلى الرغم من إعلان السلطة بداية العام عن تعديلات إدارية على آلية الصرف، عبر دمجها ضمن نظام حماية اجتماعية أوسع، كجزء من الإصلاحات التي يطالبها بها المجتمع الدولي لإعادة تفعيل الدعم السياسي والمالي للسلطة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها، إلا أن عدم اقتناعهم يمكن أن يضعف فرص إعادة تموضع السلطة دولياً.
وبحسب متابعين وخبراء، يجعل هذا الملف تحديداً أي حديث عن تسليم حكم غزة للسلطة مسقبلاً مشروطاً ومؤجلاً، وبعضهم يعبر أن هذا الملف قد يتحول "من عبء سياسي قابل للإدارة إلى اختبار حاسم له أثمان يمكن أن تكون باهظة".
إعادة تدوير
احتدم الجدل عندما أعلنت السلطة الفلسطينية من خلال مرسوم رئاسي إلغاء بعض نظم صرف المخصصات المالية لعائلات الأسرى والقتلى، ونقل إدارة تلك المدفوعات إلى "المؤسسة الوطنية للتمكين الاقتصادي" بداية العام.
كوبرفاسر، رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن، قال لبي بي سي "في وقت سابق من هذا العام، أعلن عباس أنه سيوقف تحويل المدفوعات من ميزانية السلطة الفلسطينية إلى الإرهابيين المعتقلين، وأنه سيحول الأموال بدلاً من ذلك بمبالغ أصغر عبر هيئة خاصة تدعى تمكين. لكن عملياً، لم يتغير شيء".
ويضيف كوبرفاسير "استمر الإرهابيون في تلقي رواتبهم كالمعتاد، وعندما كشف ذلك الشهر الماضي، تعهد عباس مجدداً بوقف دفع الرواتب بطرق أخرى والاكتفاء بقناة مؤسسة تمكين".
ما يشير اليه كوبرفاسر هو البيان الذي أصدره عباس وتحدث فيه عن الإصلاحات التي تقوم السلطة بها ووضح فيه سبب إصداره لمرسوم وقف صرف المخصصات بداية العام الحالي، وأكد في البيان أنه "ملتزم بتضحيات القتلى والأسرى وذويهم" .
وإثر ذلك، اتهم ساعر عبر منصة أكس السلطة الفلسطينية بعدم وقف دفع أموال لعائلات "من يسميهم الفلسطينيون بالشهداء والأسرى ومن تسميهم إسرائيل بالإرهابيين".
وأضاف أن "السلطة الفلسطينية لم توقف الدفع للإرهابيين لقد أخفيت هذه المدفوعات، المال يحول الآن عبر ما يسمى رواتب تقاعدية مرتبطة بالخدمات الأمنية الفلسطينية… هذا ليس إصلاحاً، بل خداع متعمد".
تأثير القرار داخلياً
صدر الصورة، Getty
يدرك عباس أن عليه خلق توازن بين الالتزامات الوطنية والضغط الدولي ما يتطلب استراتيجية شاملة، ترضي الشارع من دون أن تضعف قدرة السلطة على إدارة شؤونها المالية والسياسية.
وهو ما يفسر ما صدر في البيان، حيث رفض عباس التعامل مع هذه القضية كأداة للمزايدة السياسية أو الانقسام.
لكن إسرائيل تراقب عن كثب، إذ يقول العميد كوبرفاسر إن "غياب المظاهرات والاحتجاجات من جانب عائلات الإرهابيين في الشوارع خلال شهر ديسمبر أثار شكوكاً حول ما إذا كان قد طرأ أي تغيير فعلي أم لا.
وعلى أي حال، فإن تمرير الأموال عبر (تمكين)، بذريعة مشكوك فيها مفادها أن الأموال تقدم على أساس اقتصادي، هو ادعاء لا أساس له ويعكس استمرار دفع الأموال للإرهابيين. وفوق ذلك، الإرهابيون المفرج عنهم يتم توظيفهم لدى السلطة الفلسطينية ويتلقون منها رواتب سخية".
قرارات السلطة بهذا الشأن تواجه انتقادات واسعة في الداخل الفلسطيني ومن الصعب تجاهل التكلفة الداخلية لأي قرار بوقف هذه المدفوعات فالقضية متجذرة اجتماعياً، وتحمل رمزية عالية في الوعي الفلسطيني، ووقفها من دون أفق سياسي أو ضمانات دولية قد ينظر إليه كتنازل مجاني، ويهدد ما تبقى من شرعية القيادة في ظل غياب الانتخابات وتآكل الثقة الشعبية، حسب مراقبين.
قدورة فارس الرئيس السابق لهيئة شؤون الأسرى الفلسطينيين وصف المرسوم حينها بأنه "خطوة غير مناسبة في وقت حساس"، مطالبا بسحبه فوراً، ومؤكداً أن الأسرى "جزء من النسيج الوطني الفلسطيني".
وقد أحيل فارس للتقاعد بعدها، وقبل أيام قال رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية الحالي رائد أبو الحمص من حسابه على إنستجرام "إن هذه السياسات سعت إلى تحويل فئات المناضلين إلى فئات اجتماعية خاصة، وفق استمارات مسح اجتماعي تتنافى مع القيم والأخلاق الوطنية والإنسانية، لما تضمنته من أسئلة تنتقص من قيمتهم النضالية وتمس مسيرة الشعب الفلسطيني وتضحياته".
كما انتقدت فصائل فلسطينية ومنها حركة حماس قرار وقف المخصصات، معتبرة أنه "تخلٍ عن القضية الوطنية وخضوع واضح للإملاءات الخارجية".
صدر الصورة، Getty Images
خيارات السلطة
تشير التقارير إلى أن الدول المانحة لا تنظر إلى المعاشات كقضية اجتماعية بحتة، بل كدليل على غياب القطيعة الواضحة مع منطق المكافأة مقابل الفعل المسلح.
وفي 2025، كانت هناك مطالب أمريكية مستمرة تربط أي دعم أو استئناف للعلاقات المالية بوقف هذه المدفوعات، وكانت جزءاً من المفاوضات بين واشنطن والسلطة.
كما قامت بعض الدول الأوروبية بالتعبير عن تحفظات، فالاتحاد الأوروبي يربط دعمه المالي بإصلاحات في السلطة الفلسطينية، من بينها الشفافية والحوكمة والمساءلة، وهو جزء من حوار رفيع المستوى مع السلطة.
كما تضمنت خطة مساعدات الاتحاد الأوروبي للسنوات القادمة، تأكيد الأوروبيين بأنهم يدعمون الاستقرار في الضفة وغزة شرط قيام السلطة بإصلاحات وإدارة جيدة وهو ما يتضمن "تحسين مواقفها من الممارسات المثيرة للجدل".
المعاشات وحكم غزة
صدر الصورة، Getty Images
بعد الحرب في غزة، ارتفع سقف التوقعات من السلطة الفلسطينية.
لم تعد تقيَّم فقط على أساس التزاماتها السابقة في اتفاقات السلام أو التنسيق الأمني، بل على قدرتها على تقديم نفسها كبديل حقيقي لحماس، ليس فقط إدارياً بل سياسياً.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، اعتبر في تصريح الأسبوع الماضي أن سياسات السلطة الفلسطينية تشجّع "الإرهاب" وتتعارض مع أي دور مستقبلي يمكن أن تضطلع به في إدارة القطاع بعد الحرب.
في المقابل، شدد مسؤولون فلسطينيون على أن إسرائيل تستخدم هذا الملف ذريعة سياسية لعرقلة أي دور للسلطة في قطاع غزة، وللاستمرار في حجز أموال المقاصة.
في هذا السياق، يشكل استمرار دفع معاشات المعتقلين ثغرة كبرى في السردية الدولية للبديل المعتدل، ويمنح إسرائيل حجة جاهزة للطعن في أهلية السلطة لتولي أي دور خاصة في غزة، بحسب الناشط في حركة فتح عوض المشني.
يقول عوني المشني إن "الملف عاد بهذا التوقيت لأنه مرتبط بتقاطع الضغوط المالية الدولية مع التجاذب السياسي الإسرائيلي - الفلسطيني، في لحظة حساسة تبحث فيها السلطة عن دعم خارجي سياسي ومالي".
بينما، يستطرد المشني، تحاول إسرائيل تثبيت روايتها بأن سياسة السلطة لم تتغير فعلياً وأنها غير مؤهلة للحكم، بخاصة مع اقتراب الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة والذي سيتطلب دعماً دولياً للسلطة ليكون لها أي دور في إدارة القطاع والتنسيق مع سلطة فلسطينية من التكنوقراط.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير
أخبار متعلقة :